الحجر الأسود: البُعد التاريخي والديني والرمزي

الحجر الأسود: البُعد التاريخي والديني والرمزي

يُعدُّ الحجر الأسود من أبرز الرموز المقدسة في الإسلام، إذ يحتل مكانة مركزية في شعائر الطواف حول الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة. وقد ارتبط هذا الحجر عبر العصور بسلسلة من الدلالات العقائدية والتاريخية والروحية التي منحت له قدسية خاصة لا توازيها إلا قِلة من الرموز الدينية الأخرى.

الأصل والمكانة

بحسب المرويات الإسلامية، فإن الحجر الأسود هو حجر من الجنة، أنزله الله إلى الأرض، وكان أبيض من اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم. يقع هذا الحجر في الركن الجنوبي الشرقي من الكعبة، ويبدأ الطواف من عنده. ويُعتقد أن النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام قد وضعاه في موضعه الحالي أثناء بناء الكعبة. ومن هنا، نشأت قدسية هذا الحجر بوصفه شاهدًا على عهد التوحيد الأول، وركيزةً من ركائز الإرث الإبراهيمي.

الوظيفة الطقسية

في الطواف، يبدأ الحجاج والمعتمرون طوافهم من عند الحجر الأسود، ويحرص كثيرون على استلامه أو تقبيله تأسّيًا بالنبي محمد ﷺ، الذي ورد في الحديث عنه أنه قال: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك" (رواه البخاري). هذا الفعل الطقسي يحمل أبعادًا روحية عميقة، فهو ليس تعظيمًا للحجر لذاته، بل اتباعًا لسنة نبوية تعبّدية.

التحولات التاريخية

تعرّض الحجر الأسود عبر التاريخ لعدة محاولات سرقة وتدمير، أبرزها حادثة القرامطة عام 317هـ، حين اقتلعوه من الكعبة ونقلوه إلى الإحساء، حيث بقي هناك نحو 22 عامًا قبل أن يُعاد إلى موضعه. وقد أُصيب الحجر بتلف جزئي، وهو اليوم محفوظ ضمن إطار من الفضة.

البعد الرمزي

يمثل الحجر الأسود، في الوعي الإسلامي، رمزًا للميثاق الإلهي مع الإنسان، وتجديدًا لعهد الفطرة والتوحيد. كما يُعد ملمس الحجر أو تقبيله، في بعض التفاسير الصوفية، رمزًا للتجرد من الذنوب والعودة إلى الأصل النقي.

الرؤية الحضارية

من منظور حضاري، يمكن اعتبار الحجر الأسود شاهدًا على تواصل الشعائر وتماسك الهوية الإسلامية عبر القرون. فمهما اختلفت الظروف السياسية أو الجغرافية، يظل هذا الحجر مركزًا وجاذبًا لقلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، مما يدلّ على عمق الرابط الرمزي بين الإنسان المقدّس والمكان المقدّس.