بوصلة الهندسة في عصر الذكاء الاصطناعي/ بروفيسور هيثم قاسم

في زمن يشهد فيه العالم تسارعًا غير مسبوق نحو الذكاء الاصطناعي، تبرز محاكاة الطبيعة كإحدى الركائز الأساسية التي لا يمكن تجاهلها في علوم الهندسة. فبينما يوفر الذكاء الاصطناعي أدوات قوية للتحليل والتنبؤ وربما حتى اتخاذ القرارات، تبقى الطبيعة – بخبرتها المتراكمة عبر ملايين السنين – المصدر الأوسع والأعمق للإلهام والحلول الهندسية المستدامة، شريطة أن نُحسن الإصغاء إلى لغتها، وننجح بفك شفرات نُظمها، ونستثمرها بعقلٍ يرنو إلى خدمة الحياة، لا إلى تدميرها أو السيطرة عليها.

تُتيح محاكاة الطبيعة للمهندسين والباحثين فرصة فهم الظواهر الفيزيائية والبيولوجية كما تحدث في الواقع – بكل تعقيداتها وجمالياتها – لا كما نتصورها في خيالنا او اجتهاداتنا الذهنية. وهذا يُمهّد الطريق لابتكار حلول هندسية مستوحاة من كائنات وأنظمة بيولوجية أثبتت كفاءتها ومرونتها في حل مشكلات ظلّت عصيّة لفترات طويلة على النهج التقليدي. على سبيل المثال لا الحصر: تصميم مواد ذكية قادرة على التكيّف مع الظروف القاسية، أو بناء هياكل هندسية تحاكي بنية النباتات والحيوانات لتوفير الطاقة وتقليل الأثر البيئي، أو تصميم وتطوير الدرونات المستوحاة من تحليق النحل واليعسوب والأجنحة القابلة للطي... كل هذه المقاربات تثبت أن المستقبل الحقيقي للهندسة يبدأ من الإصغاء إلى الطبيعة وفهم منطقها الخفي، لا بتجاوزها.

وبينما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم هذه المحاكاة ويُسرّع نتائجها، فإن الأساس المعرفي الذي تستند إليه هذه الحلول يظل قائمًا على فهم عميق للطبيعة وآلياتها وسلوكها. لذلك، فإن الدمج بين الذكاء الاصطناعي ومحاكاة الطبيعة ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة علمية حقيقية لدفع عجلة التطور الهندسي والتكنولوجي بوجه عام.

من هذا المنطلق، ربما يشكل دمج مفاهيم محاكاة الطبيعة في مجال الهندسة ضمن المناهج الدراسية في المراحل المبكرة (الإعدادية والثانوية) خطوة استراتيجية نحو بناء جيل أكثر وعيًا بالتفاعل بين الإنسان والبيئة. تدريس هذه المفاهيم في المدارس لا يُنمّي فقط التفكير العلمي الإبداعي لدى جيل الشباب، بل يُرسّخ في وعيهم أهمية الطبيعة كمصدر للحلول، ويعزز ثقافة احترام البيئة والحفاظ على مواردها. وهذا التوجّه كفيل بإحداث تغيير جذري في الثقافة العامة، حيث يصبح الاهتمام بالاستدامة البيئية والابتكار المستوحى من الطبيعة جزءًا من الهوية العلمية والمجتمعية للأجيال القادمة.